فصل: ذكر وفاة السلطان سنجر:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الكامل في التاريخ (نسخة منقحة)



.ذكر حصر نور الدين قلعة حارم:

في هذه السنة سار نور الدين محمود بن زنكي إلى قلعة حارم، وهي للفرنج، ثن لبيمند، صاحب أنطاكية، وهي تقارب أنطاكية من شرقيها، وحصرها وضيق على أهلها، وهي قلعة منيعة في نحور المسلمين، فاجتمعت الفرنج بالقرب منها ومن بعد، وساروا نحوه ليرحلوه عنها.
وكان بالحصن شيطان من شياطينهم يعرفون عقله ويرجعون إلى رأيه، فأرسل إليهم يقول: إننا نقدر على حفظ القلعة، وليس بنا ضعف، فلا تخاطروا أنتم باللقاء، فإنه إن هزمكم أخذها وغيرها، والرأي مطاولته؛ فأرسلوا إليه وصالحوه على أن يعطوه نصف أعمال حارم، فاصطلحوا على ذلك،ورحل عنهم، فقال بعض الشعراء:
ألبست دين محمد يا نوره ** عزاً له فوق السها آساد

ما زلت تشمله بمياد القنا ** حتى تثقف عوده المياد

لم يبق مذ أرهفت عزمك دونه ** عدد يراع به، ولا استعداد

إن المنابر لو تطيق تكلماً ** حمدتك عن خطبائها الأعواد

ملق بأطراف القريحة كلكلاً ** طرفاه ضرب صادق وجلاد

حاموا فلما عاينوا خطب الردى ** حاموا فرائس كيدهم أو كادوا

ورأى البرنس وقد تبرنس ذلة ** حزماً لحارم والمصاد مصاد

من منكر أن ينسف السيل الربى ** وأبوه ذلك العارض المداد

أو أن يعيد الشمس كاسفة السنا ** نار لها ذاك الشهاب زناد

لا ينفع الآباء ما سمكوا من ال ** علياء حتى يرفع الأولاد

وهي طويلة.

.ذكر وفاة خوارزم شاه أتسز وغيره من الملوك:

في هذه السنة، تاسع جمادى الآخرة، توفي خوارزمشاه أتسز بن محمد أبن أنوشتكين، وكان قد أصابه فالج، فتعالج منه، فلم يبرأ، فاستعمل أدوية شديدة الحرارة بغير أمر الأطباء، فاستد مرضه، وضعفت قوته، فتوفي، وكان يقول عند الموت: {ما أغنى عني ماليه هلك عني سلطانيه}. وكانت ولادته في رجب سنة تسعين وأربعمائة.
ولما توفي ملك بعده ابنه أرسلان، فقتل نفراً من أعمامه، وسمل أخاً له فمات بعد ثلاثة أيام؛ وقيل بل قتل نفسه.
وأرسل إلى السلطان سنجر، وكان قد هرب من أسر الغز، على ما نذكره، ببذل الطاعة والأنقياد، فكتب له منشوراً بولاية خوارزم، وسير له الخلع في رمضان، فبقي في ولايته ساكناً أمناً.
وكان أتسز حسن السيرة، كافأ عن أموال رعيته، منصفاً لهم محبوباً إليهم، مؤثراً للإحسان والخير إليهم، وكان الرعية معه بين أمن غامر وعدل شامل.
وفي سابع عشر الشهر الذكور توفي أبو الفوارس بن محمد بن أرسلان شاه ملك كرمان، وملك بعده ابنه سلجوقشاه.
وفيها توفي الملك مسعود بن قلج أرسلان بن سليمان بن قتلمش، صاحب قونية وما يجاورها من بلاد الروم، وملك بعده ابنه قلج أرسلان.

.ذكر هرب السلطان سنجر من الغز:

في هذه السنة، في رمضان، هرب السلطان سنجر بن ملكشاه من أسر الغز هو وجماعة من الأمراء الذين معه، وسار إلى ترمذ، واستظهر بها على الغز،وكان خوارزمشاه أتسز بن محمد بن أنوشتكين، والخاقان محمود بن محمد، يقصدان الغز فيقاتلانهم فيمن معهما، فكانت الحرب بينهم سجالاً، وغلب كل واحد من الغز والخراسانيين على ناحية من خراسان، فهو يأكل دخلها، لا رأس لهم يجمعهم.
وسار السلطان سنجر من ترمذ إلى جيحون يريد العبور إلى خراسان، فاتفق أن مقدم الأتراك القارغلية، اسمه علي بك، توفي، وكان أشد شيء على السلطان سنجر وعلى غيره، من سائر الأمم من أقاصي البلاد وأدانيها، وعاد إلى دار ملكه في رمضان؛ فكانت مدة أسره مع الغز من سادس جمادى الأولى سنة ثمان وأربعين إلى رمضان سنة إحدى وخمسين وخمسمائة.

.ذكر البيعة لمحمد بن عبد المؤمن بولاية عهد أبيه:

في هذه السنة أمر عبد المؤمن بالبيعة لولده محمد بولاية عهده، وكان الشرط والقاعدة بين عبد المؤمن وبين عمر هنتاني أن يلي عمر الأمر بعد عبد المؤمن؛ فلما تمكن عبد المؤمن من الملك وكثر أولاده أحب أن ينقل الملك إليهم، فأحضر أمراء العرب من هلال ورعبة وعبدي وغيرهم إليه ووصلهم وأحسن إليهم، ووضع عليهم من يقول لهم ليطلبوا من عبد المؤمن، ويقولوا له: نريد أن نجعل لنا ولي عهد من ولدك يرجع الناس إليه بعدك، ففعلوا ذلك، فلم يجبهم إكراماً لعمر هنتاني لعلو منزلته في الموحدين، وقال لهم: إن الأمر لأبي حفص عمر؛ فلما علم عمر ذلك خاف على نفسه، فحضر عند عبد المؤمن وأجاب إلى خلع نفسه، فحينئذ بويع لمحمد بولاية العهد، وكتب إلى جميع بلاده بذلك، وخطب له فيها جميعها، فأخرج عبد المؤمن من الأموال في ذلك اليوم شيئاً كثيراً.

.ذكر استعمال عبد المؤمن أولاده على البلاد:

في هذه السنة استعمل عبد المؤمن أولاده على البلاد، فاستعمل ولده أبا محمد عبد الله على بجاية وأعمالها؛ واستعمل ابنه ابا الحسن علياً على فاس وأعمالها، واستعمل ابنه ابا حفص عمر على مدينة تلمسان وأعمالها، وولى ابنه ابا سعيد سبتة والجزيرة الخضراء ومالقة؛ وكذلك غيرهم.
ولقد سلك في استعمالهم طريقاً عجيباً، وذلك أنه كان قد استعمل على اللاد شيوخ الموحدين المشهورين من أصحاب المهدي محمد بن تومرت، وكان يتعذر عليه أن يعزلهم، فأخذ أولادهم، وتركهم عنده يشتغلون ي العلوم، فلما مهروا فيها وصاروا يقتدى بهم قال لآبائهم: إني أريد أن تكونوا عندي أستعين بكم على ما أنا بصدده، ويكون ألوادكم في الأعمال لأنهم علماء فقهاء؛ فأجابوا إلى ذلك وهم فرحون مسرورون، فولى أولادهم ثم وضع عليهم بعضهم ممن يعتمد عليه، فقال لهم: إني أرى أمراً عظيماً قد فعلتموه؛ فارقتم فيه الحزم والأدب. فقالوا وما هو؟ فقال: أولادكم في الأعمال وأولاد أمير المؤمنين ليس لهم منها شيء مع ما فيهم من العلم وحسن السياسة، وأني أخاف أن ينظر في هذا فتسقط منزلتكم عنده؛ فعلموا صدق القائل، فحضروا عند عبد المؤمن وقالوا: نحب أن تستعمل على البلاد السادة أولادك. فقال لا أفعل؛ فلم يزالوا به حتى فعل ذلك بسؤالهم.

.ذكر حصر السلطان محمد بغداد:

في هذه السنة، في ذي الحجة، حصر السلطان محمد بغداد، وسبب ذلك أن السلطان محمد بن محمود كان قد أرسل إلى الخليفة يطلب أن يخطب له ببغداد والعراق، فامتنع الخليفة من إجابته إلى ذلك، فسار من همذان في عساكر كثيرة نحو العراق، ووعده أتابك قطب الدين، صاحب الموصل، ونائبه زين الدين علي بإرسال العساكر إليه نجدة له على حصر بغداد، فقدم العراق في ذي الحجة سنة إحدى وخمسين، واضطرب الناس ببغداد، وأرسل الخليفة يجمع العساكر فأقبل خطلبرس من واسط وعصى أرغش، صاحب البصرة، وأخذ واسط، ورحل مهلهل إلى الحلة فأخذها، واهتم الخليفة وعمن الدين بن هبيرة بأمر الحصار، وجمع جميع السفن وقطع الجسر وجعل الجميع تحت التاج، ونودي، منتصف المحرم سنة اثنتين وخمسين، أن لا يقيم أحد بالجانب الغربي، فأجفل الناس وأهل السواد، ونقلت الأموال إلى حريم دار الخلافة، وخرب الخليفة قصر عيسى والمربعة والقرية والمستجدة والنجمي، ونهب أصحابه ما وجدوا؛ وخرب أصحاب محمد شاه نهر القلابين، والتوثة، وشارع ابن رزق الله وباب الميدان وقطفتا.
وأما أهل الكرخ وأهل باب البصرة فإنهم خرجوا إلى عسكر محمد، وكسبوا معهم أموالاً كثيرة.
وعبر السلطان محمد فوق حربي إلى الجانب الغربي، ونهبت أوانا، واتصل به زين الدين هناك، وساروا، فنزل محمد شاه عند الرملة، وفرق الخليفة السلاح على الجند والعامة، ونصب المجانيق والعرادات.
فلما كان في العشرين من المحرم ركب عسكر محمد شاه وزين الدين علي، ووقفوا عند الرقة، ورموا بالنشاب إلى ناحية التاج، فعبر إليهم عامة بغداد فقاتلوهم، ورموهم بالنفط وغيره، ثم جرى بينهم عدة حروب.
وفي ثالث صفر عاودوا القتال، واشتدت الحرب، وعبر كثير من أهل بغداد سباحة وفي السفن، فقتلوا؛ وكان يوماً مشهوداً.
ولم تزل الحرب بينهم كل وقت، وعمل الجسر على دجلة وعبر عليه أكثر العسكر إلى الجانب الشرقي، وصار القتال في الجانبين، وبقي زين الدين في الجانب الغربي، وأمر الخليفة فنودي: كل من جرح فله خمسة دنانير؛ فكان كلما جرح إنسان يحضر عند الوزير فيعطيه خمسة دنانير، فاتفق أن بعض العامة جرح جرحاً ليس بكبير، فحضر يطلب الدنانير، فقال له الوزير ليس هذا الجرح بشيء؛ فعاود القتال، فضرب فانشق جوفه وخرج شيء من شحمه، فحمل إلى الوزير فقال: يامولانا الوزير أيرضيك هذا؟ فضحك منه، وأضعف له، ورتب له من يعالج جراحته إلى أن برىء.
وتعذرت الأقوات في العسكر إلا أن اللحم والفواكه والخضر كثيرة، وكانت الغلات في بغداد كثيرة لأن الوزير كان يفرقها في الجند عوض الدنانير فيبيعونها، فلم تزل الأسعار عندهم رخيصة، إلا أن اللحم والخضر والفاكهة قليلة عندهم.
واشتد الحصار على أهل بغداد لانقطاع المواد عنهم وعدم المعيشة لأهلها؛ وكان زين الدين وعسكر الموصل غير مجدين في القتال لأجل الخليفة والمسلمين؛ وقيل لأن نور الدين محمودبن زنكي، وهو أخو قطب الدين، صاحب الموصل الأكبر، أرسل إلى زين الدين يلومه على قتال الخليفة، ففتر وأقصر.
فلم تزل الحروب في أكثر الأيام، وعمل السلطان محمد أربعمائة سلم ليصعد الرجال فيها إلى السور، وزحفوا، وقاتلوا، ففتح أهل بغداد أبواب البلد وقالوا: أي حاجة بكم إلى السلاليم؟ هذه الأبواب مفتحة فأدخلوا منها؛ فلم يقدروا على أن يقربوها. فبينما الأمر على ذلك إذ وصل الخبر إلى السلطان محمد أن أخاه ملكشاه وإيلدكز، صاحب بلاد آران، ومعه الملك أرسلان ابن الملك طغرل بن محمد، وهو ابن امرأة إيلدكز، قد دخلوا همذان واستولوا عليها، وأخذوا أهل الأمراء الذين مع محمد شاه وأموالهم، فلما سمع محمد شاه ذلك جد في القتال لعله يبلغ غرضاً، فلم يقدر على شيء ورحل عنها نحو همذان في الرابع والعشرين من ربيع الأول سنة اثنتين وخمسين وخمسمائة.
وعاد زين الدين إلى الموصل، وتفرق ذلك الجمع على عزم العود إذا فرغ محمد شاه من إصلاح بلاده، فلم يعودوا يجتمعون؛ وفي كثرة حروبهم لم يقتل منهم إلا نفر يسير، وإنما الجراح كانت كثيرة، ولما ساروا نهبوا بعقوبا وغيرها من طريق خراسان.
ولما رحل العسكر من بغداد أصاب أهلها أمراض شديدة حادة، وموت كثير للشدة التي مرت بهم؛ وأما ملكشاه وإيلدكز ومن معهما فإنهم ساروا من همذان إلى الري، فخرج إليهم إينانج شحنتها وقاتلهم فهزموه، فأنفذ السلطان محمد الأمير سقمس بن قيماز الحرامي في عسكر نجدة لإينانج، فسار سقمس، وكان إيلدكز وملكشاه ومن معهما قد عادوا من الري يريدون محاصرة الخليفة، فلقيهم سقمس وقاتلهم، فهزموه ونهبوا عسكره وأثقالهم، فاحتاج السلطان محمد إلى الإسراع، فسار، فلما بلغ حلوان بلغه أن إيلدكز بالدينور، وأتاه رسول من نائبه إينانج أنه دخل همذان، وأعاد الخطبة له فيها، فقويت نفسه وهرب شملة،صاحب خوزستان، إلى بلاده، وتفرق أكثر جمع إيلدكز وملكشاه، وبقيا في خمسة آلاف فارس، فعاد إلى بلادهما شبه الهارب.
ولما رحل محمد شاه إلى همذان أراد التجهز لقصد بلاد إيلدكز، فابتدأ به مرض السل، وبقي به إلى أن مات.

.ذكر عدة حوادث:

في هذه السنة، في ربيع الأول، أطلق أبو البدر ابن الوزير ابن هبيرة من حبس تكريت؛ ولما قدم بغداد خرج أخوه والموكب يتلقونه، وكان يوماً مشهوداً، وكان مقامه في الحبس يزيد على ثلاث سنين.
وفيها احترقت بغداد في ربيع الآخر، وكثر الحريق بها، واحترق درب فراشا، ودرب الدواب ودرب اللبان، وخرابة ابن حربة، والظفرية، والخاتونية، ودار الخلافة، وباب الأزج، وسوق السلطان وغير ذلك.
وفيها في شوال، قصد الإسماعيلية طبس في خراسان، فأوقعوا بها وقعة عظيمة، وأسروا جماعة من أعيان دولة السلطان، ونهبوا أموالهم ودوابهم وقتلوا فيهم.
وفيها، في ذي القعدة، توفي شيخ الإسلام أبو المعالي الحسن بن عبيد الله بن أحمد بن محمد المعروف بابن الرزاز بنيسابور، وهو من أعيان الأفاضل.
وفي هذه السنة توفي مريد الدين بن نيسان رئيس آمد والحاكم فيها على صاحبها، وولي ما كان إليه بعده ابنه كمال الدين أبو القاسم.
وفيها توفي أبو الحسن علي بن الحسين الغزنوي، الواعظ المشهور، ببغداد، وكان قدم إليها سنة ستة عشرة وخمسمائة، وكان له قبول عظيم عند السلاطين والعامة والخلفاء، إلا أن المقتفي أعرض عنه بعد موت السلطان مسعود لإقبال السلطان عليه، وكان موته في المحرم.
وتوفي أبو الحسن بن الخل الفقيه الشافعي، شيخ الشافعية ببغداد، وهو من أصحاب أبي بكر الشاشي، وجمع بين العلم والعمل، وكان يؤم بالخليفة في الصلاة.
وتوفي ابن الآمدي الشاعر، وهو من أهل النيل من أعيان الشعراء في طبقة الغزي والأرجاني، وكان عمره قد زاد على تسعين سنة.
وفيها قتل مظفر بن حماد بن أبي الخير صاحب البطيحة، قتله نفيس ابن فضل بن أبي الخير في الحمام، وولي ابنه بعده.
وفيها توفي الوأواء الحلبي الشاعر المشهور.
وفيها، في رمضان، توفي الحكيم أبو جعفر محمد البخاري بأسفرايين، وكان صاحب معرفة بعلوم الحكماء الأوائل. ثم دخلت:

.سنة اثنتين وخمسين وخمسمائة:

.ذكر الزلازل بالشام:

في هذه السنة، في رجب، كان بالشام زلازل كثيرة قوية خربت كثيراً من البلاد، وهلك فيها ما لا يحصى كثرة، فخرب منها بالمرة حماة وشيزر وكفر طاب والمعرة وأفاميا وحمص وحصن الأكراد وعرقة واللاذقية وطرابلس وأنطاكية.
وأما ما لم يكثر فيه الخراب ولكن خرب أكثره فجميع الشام، وتهدمت أسوار البلاد والقلاع، فقال نور الدين محمود في ذلك المقام المرضي، وخاف على بلاد الإسلام من الفرنج حيث خربت الأسوار، فجمع عساكره وأقام بأطراف بلاده يغير على بلاد الفرنج ويعمل في الأسوار في سائر البلاد، فلم يزل كذلك حتى فرغ من جميع أسوار البلاد.
وأما كثرة القتلى، فيكفي فيه أن معلماً كان بالمدينة، وهي مدينة حماة، ذكر أنه فارق المكتب لمهم عرض له فجاءت الزلزلة فخربت البلد، وسقط المكتب على الصبيان جميعهم. قال المعلم: فلم يأت أحد يسأل عن صبي كان له.

.ذكر ملك نور الدين حصن شيزر:

نبتدىء بذكر هذا الحصن، ولمن كان قبل أن يملكه نور الدين محمود بن زنكي، فنقول: هذا الحصن قريب من حماة، بينهما نصف نهار، وهو على جبل عال نميع لا يسلك إليه إلا من طريق واحدة. وكان لآل منقذ الكنانيين يتوارثونه من أيام صالح بن مرداس إلى أن انتهى الأمر إلى أبي المرهف بنصر بن علي بن المقلد بعد أبيه أبي الحسن علي، فبقي بيده إلى أن مات سنة إحدى وتسعين وأربعمائة، وكان شجاعاَ كريماً؛ فلما حضره الموت استخلف أخاه أبا سلامة مرشد بن علي، فقال: والله لا وليته ولأخرجن من الدنيا كما دخلتها.
وكان عالماً بالقرآن والأدب، وهو والد مؤيد الدولة أسامة بن منقذ، فولاها أخاه الأصغر سلطان بن علي، واصطحبا أجمل صحبة مدة من الزمان، فأولد مرشد عدة أولاد ذكور، وكبروا وسادوا، منهم: عز الدولة أبو الحسن علي، ومؤيد الدولة أسامة وغيرهما؛ ولم يولد لأخيه سلطان ولد ذكر إلى أن كبر فجاءه أولاد ذكور، فحسد أخاه على ذلك، وخاف أولاد أخيه على أولاده، وسعى بينهم المفسدون فغيروا كل اً منهما على أخيه، فكتب سلطان إلى أخيه مرشد شعر يعاتبه على أشياء بلغته عنه، فأجابه بشعر في معناه رأيت إثبات ما تمس الحاجة إليه منه، وهي هذه الأبيات:
ظلوم أبت في الظلم إلا تماديا ** وفي الصد والهجان إلا تناهيا

شكت هجرنا والذنب في ذاك ذنبها ** فيا عجباً من ظالم جاء شاكيا

وطاوعت الواشين في وطالما ** عصيت عذولاً في هواها وواشيا

ومال بها تيه الجمال إلى القلى ** وهيهات أن أمسي لها الدهر قاليا

ولا ناسياً ما أودعت من عهودها ** وإن هي أبدت جفوة وتناسيا

ولما أتاني من قريضك جوهر ** جمعت المعالي فيه والمعانيا

وكنت هجرت الشعر حيناً لأنه ** تولى برغمي حين ولى شبابيا

وأين من الستين لفظ مفوق ** إذا رمت منه أدنى القول عصانيا

وقلت: أخي يرعى بني وأسرتي ** ويحفظ عهدي فيهم وذماميا

ويجزيهم ما لم أكلفه فعله ** لنفسي فقد أعددته من تراثيا

فما لك لما أن حنى الدهر صعدتي ** وثلم مني صارماً كان ماضيا

تنكرت حتى صار برك قسوة ** وقربك منهم جفوة وتنابيا

وأصبحت صفر الكف مما رجوته ** أرى اليأس قد عفى سبيل رجائيا

على أنني ما حلت عما عهدته ** ولا غيرت هذي السنون وداديا

فلا غرو عند الحادثات، فإنني ** أراك يميني والأنام شماليا

تحل بها عذراء لو قرنت بها ** نجوم السماء لم تعد دراريا

تحلت بدر من صفاتك زانها ** كما زان منظوم اللآلي الغوانيا

وعش بانياً للمجد ما كان واهياً ** مشيداً من الإحسان ما كان هاويا

وكان الأمر بينهما فيه تماسك، فلما توفي مرشد سنة إحدى وثلاثين وخمسمائة قاب أخوه لأولاده ظهر المجن، وبادأهم بما يسوءهم، وأخرجهم من شيزر، فتفرقوا، وقصد أكثرهم نور الدين وشكوا إليه ما لقوا من عمهم، فغاظه ذلك، ولم يمكنه قصده والأخذ بثأرهم وإعادتهم إلى وطنهم لاشتغاله بجهاد الفرنج، ولخوفه أن يسلم شيزر إلى الفرنج.
ثم توفي سلطان وبقي بعده أولاده، فبلغ نور الدين عنهم مراسلة الفرنج، فاشتد حنقه عليهم، وانتظر فرصة تمكنه، فلما خربت القلعة في هذه السنة بما ذكرناه من الزلزلة لم ينج من بني منقذ الذين بها أحد.
وسبب هلاكهم أجمعين أن صاحبها منهم كان قد ختن ولداً له، وعمل دعوة للناس، وأحضر جميع بني منقذ عنده في داره، وكان له فرس يحبه، ويكاد لا يفارقه، وإذا كان في مجلس أقيم الفرس على بابهن وكان المهر في ذلك اليوم على باب الدار فجاءت الزلزلة، فقام الناس ليخرجوا من الدار، فلما وصلوا مجفلين إلى الباب ليخرجوا من الدار رمح الفرس رجلاً كان أولهم فقتله، وامتنع الناس من الخروج، فسقطت الدار عليهم كلهم، وخربت القلعة وسقط سورها وكل بناء فيها، ولم ينج منها إلا الشريد، فبادر إليها بعض أمرائه، وكان بالقرب منها فملكها وتسلمها نور الدين منه، فملكها وعمر أسوارها ودورها، وأعادها جديدة.

.ذكر وفاة الدبيسي صاحب جزيرة ابن عمر واستيلاء قطب الدين مودود على الجزيرة:

كانت الجزيرة لأتابك زنكي، فلما قتل سنة إحدى وأربعين أقطعها أبنه سيف الدين غازي للأمير أبي بكر الدبيسي، وكان من أكابر أمراء والدهن فبقيت بيده إلى الآن، وتمكن منها وصار بحيث يتعذر على قطب الدين أخذها منه، فمات في ذي الحجة سنة إحدى وخمسين، ولم يخلف ولداً، فاستولى عليها مملوك له اسمه غلبك، وأطاعه جندها، فحصرهم مودود ثلاثة أشهر ثم تسلمها من غلبك في صفر من سنة ثلاث وخمسين، وأعطاه عوضها إقطاعاً كثيراً.

.ذكر وفاة السلطان سنجر:

في هذه السنة في ربيع الأول توفي السلطان سنجر بن ملكشاه بن ألب أرسلان، أبو الحرث، أصابه قولنج، ثم بعده إسهال، فمات منه، ومولده سنجار، من ديار الجزيرة، في رجب سنة تسع وسبعين وأربعمائة، وسكن خراسان، واستوطن مدينة مرو، ودخل بغداد مع أخيه السلطان محمد، واجتمع معه بالخليفة المستظهر بالله، فعهد إلى محمد بالسلطنة وجعل سنجر ولي عهد.
فلما مات محمد خوطب سنجر بالسلطان، واستقام أمره، وأطاعه السلاطين، وخطب له على أكثر منابرالإسلام بالسلطنة نحو أربعين سنة، وكان قبلها يخاطب بالملك عشرين سنةئئن ولم يزل أمره عالياً وجده متراقياً إلى أن أسره الغز على ما ذكرناه، ثم إنه خلص بعد مدة وجمع إليه أطرافه بمرو، وكاد يعود إليه ملكه، فأدركه أجله، وكان مهيباً رفيقاً بالرعية، وكانت البلاد في زمانه آمنة.
ولما مات دفن في قبة بناها لنفسه سماها دار الآخرة؛ ولما وصل خبر موته إلى بغداد قطعت خطبته، ولم يجلس له في الديوان للعزاء.
ولما حضر السلطان سنجر الموت استخلف على خراسان الملك محمود بن محمد بن بغراجان وهو ابن أخت السلطان سنجر، فأقام بها خائفاً من الغز، فقصد جرجان يستظهر بها، وعاد الغز إلى مرو وخراسان، واجتمع طائفة من عساكر خراسان على أي أبه المؤيد، فاستولى على طرف من خراسان، وبقيت خراسان على هذا الاختلال إلى سنة أربع وخمسين.
وأرسل الغز إلى الملك محمود بن محمد وسألوه أن يحضر عندهم ليملكوه عليهم، فلم يثق بهم، وخافهم على نفسه؛ فأرسل أبنه إليهم فأطاعوه مديدة ثم لحق بهم الملك محمود على ما نذكره سنة ثلاث وخمسين.